لم يعد يستطيع أن يسير فى الشارع آمنًا، فالغضب الشعبى على جماعة «الإخوان»، صار يلاحقه، أينما توجه، وكلما اقترف هؤلاء جريمة ما ضد ضابط شرطة، أو جنود أمن، أو أحرقوا مقرا حكوميا أو خربوا ممتلكات خاصة، تضخم الغضب ضده، مثله مثل كرة ثلج تتدحرج.
الأمر لم يعد مقتصرًا على نظرة غاضبة أو شامتة، ولم يعد ينحصر فى عبارة استهجان أو استنكار، وإنما أصبح أخطر، فهناك حانقون يبادرون إلى الاشتباك معه بالأيادى، ويكيلون له العبارات الجارحة.
«يا إرهابى.. كنا نظن أنكم ناس طيبون يا شيخ.. فاكتشفنا أنكم شياطين، والله مبارك كان حلالا فيكم».. «العادلى لم يكن مذنبا فى حقكم.. نحن كنا مخدوعين، روحوا منكم لله».. «بأى وجه يا شيخ، بعد ما ارتكبتموه من فضائح الفساد والسرقة والرشاوى، تدّعون أنكم متدينون.. ربنا ينتقم منكم؟» «ألا تخجل من تهليل معتصمى رابعة لما قيل لهم إن قوات أمريكية تتوجه لضرب مصر.. أنتم خونة؟».
هكذا تلاحقه العبارات وتحاصره لعنة الإخوان، الذين أسفر عام واحد من حكمهم البلاد، عن حالة من التوجس والشك لدى الشارع المصرى أو فلنقل معظم الشارع المصرى تجاه مظاهر التدين.
يصرخ عاليًا: «يا عالم حرام عليكم.. الله يحرق الإخوان.. أنا تارك لحيتى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أكن فى أى يوم من الأيام منتميًا إلى هذه الجماعة، ولا إلى التيار السلفى.. أنا مسلم ملتزم أقتفى سنة النبى فحسب».
صرخاته تذهب سدى، وكلماته تضيع هباءً منثورًا، فجسور الثقة امتلأت شروخًا وصارت متهالكة هشة.
ويروى «س. م» ذو الأربعين عامًا والموظف بإحدى الشركات الحكومية ما يعتبره مأساةً قائلاً: «سكان الشارع الذى أقيم فيه منذ ولدت، ولما تزوجت اخترت جارة تعرفها أسرتى، وتشهد لها المنطقة بحسن الخلق، وبينى وبينهم عيش وملح وذكريات طفولة، صاروا ينظرون لى على أنى إرهابى».. «هؤلاء مقربون يعرفوننى منذ سنوات طويلة، لكنهم رغم ذلك لم يعودوا يقبلون بى وسطهم.. هم يعرفون أنى لم أكن إخوانيا، ويدركون أنى أطلق لحيتى اتباعًا للسنة.. رغم ذلك يرتابون فى أمرى، فما بالك بالوضع فى مقر عملى أو فى الشارع؟».
ويضيف «حسبى الله ونعم الوكيل فى محمد مرسى وأهله وعشيرته.. كان الناس يتعاطفون معنا قبل أن يحكم الإخوان، وبعد أن سقطوا أصبح الشارع متحفزا عدائيا إزاءنا دون أدنى ذنب.. وهو الأمر الذى دفعنى إلى أن أحلق لحيتى حتى أستطيع أن أسير فى وطنى مطمئنًا، أما زوجتى المنتقبة فلم تعد تخرج من البيت، لأن السيدات صرن يوجهن لها الشتائم فى الأسواق».
أما «س. محمد» طالب كلية الصيدلة، الذى أعفى لحيته بعد الثورة فيقول: أطلقت لحيتى بعد الثورة، وكان هذا القرار ليس لانتمائى لتيار الإخوان، أو غيره من تيارات الإسلام السياسى، وإنما لأنى ملتزم دينيا منذ طفولتى، وقد كنت فى زمن مبارك أود لو أن أترك لحيتى، لكنى لم أفعل خوفا من ملاحقات رجال العادلى، وزوار منتصف الليل.. ولمّا سقط مبارك، وبدأنا نتنفس نسمات الحرية، قررت إعفاء لحيتى، حتى حكم الإخوان فأفسدوا، ومن ثم لم أعد أخشى رجال الشرطة، وإنما صرت أخشى غضب الشارع، ومن ثم حلقت لحيتى، رغم أنفى.. والأمر لله.
«إسماعيل. ص» مدرس لغة عربية، أكد أنه ينتمى فكريا إلى جماعة الإخوان قبل الثورة، وكثيرا ما كان يردد فى النقاشات مع أصدقائه أنه لابد من أن يمارسوا العمل السياسى على قاعدة من الديمقراطية التى تشمل الجميع، لكنه لم ينضم إلى الجماعة رسميا أو يستخرج عضوية حزب الحرية والعدالة.. يقول: «يمكن القول بأنى كنت إخوانيًا حتى أحداث محمد محمود، فقد صدمت صدمة عنيفة لما رأيت قيادات الإخوان يدخلون البرلمان فيما دماء الشهداء الطاهرة تراق، وقتها أعلنت للجميع بأنى لن أدعم الإخوان فى انتخابات الرئاسة».
ويضيف «أنا من أبناء الثورة، كنت فى ميدان التحرير، منذ يومها الأول، وشهدت كل أحداثها الساخنة، وكدت أفقد حياتى فى مذبحة محمد محمود، وقد تظاهرت ضد الإعلان الدستورى، لكن هذا لم ينف عنى تهمة الانتماء لجماعة الإخوان»
ويقول: «كنت مخدوعًا كالكثيرين، ولما اكتشفت الحقيقة، ووجدت أن جماعة الإخوان تسير ضد الثورة، تحولت من تأييدها إلى عدائها، لكن هذا لم ينف عنى تهمة أنى إخوانى».. مضيفًا: «كل ما فى الأمر أنى ملتزم دينيا أؤدى الصلوات الخمس بالمسجد وأطلق لحيتى».
ويتابع بصوت يفيض الحزن من نبراته «على مدى عامين، وقبل سقوط محمد مرسى وجماعته، كانت تندلع مشادات بينى وبين أصدقائى، وكانت تنتهى عادةً بأن أشرح لهم أنى ضد تيار الإخوان، وأرى أن الحل فى تيار يسارى دينى وسطى، لأن الهوية الدينية جزء أصيل من شخصية مصر، وهو أمر كانوا يفسرونه فى إطار الخلاف الطبيعى فى الرأى.. الآن إذا قلت بهذا الرأى، فإن التهمة الجاهزة والمجانية هى أننى خلية نائمة».
ويؤكد أنه مع حالة العداوة التى تتضخم ضد مظاهر التدين، فى الشارع المصرى، اضطر إلى أن يحلق لحيته.
ويقول: «فى محطة بنزين رفض الموظف تقديم الخدمة لى، وفى أحد المطاعم قيل لى صراحة «أرجو أن تنصرف فالزبائن لا يحبون الملتحين.. هذه كارثة ولابد من أن يؤدى الإعلام دورا كبيرا لعلاجها، فليس كل ملتح إخوانيا، ولعلنا شاهدنا جميعا قيادات الإخوان بغير لحى بعد القبض عليهم»، مؤكدا أن العداء تجاه جزء من الشعب ينذر بكوارث لا تحمد عقباها.. فنحن وإن اختلفنا نبقى مصريين تحت سماء وطن تتجلى ملامح عبقريته فى القدرة على احتواء الجميع معًا.
علا أحمد، سيدة ثلاثينية، صاحبة حضانة بأحد أحياء القاهرة الراقية، يحبها سكان الحى، ويشهدون لها بـ«الشهامة» والأمانة فى عملها، إلى درجة أن الضغط على الحضانة التى تملكها كان أعلى مرتين تقريبا من الطاقة الاستيعابية للحضانة، وهو الأمر الذى كان يدفعها للتفكير لتأجير أو شراء مقر آخر قريب، بحيث تتوسع أعمالها، لكن خلال الستة الأشهر الأخيرة، ومع تنامى الغضب من سياسات المعزول وحماقات عشيرته، تحولت السيدة من «امرأة ملتزمة» إلى إرهابية.. لا لشىء إلا لأنها ترتدى النقاب.
وتقول علا: لست منتمية لتيار الإخوان، ولم أكن فى أى وقت مضى، مهتمة بتجاذبات السياسة، وارتديت النقاب قبل نحو سبع سنوات، على سبيل الالتزام فحسب، وهو الأمر الذى لم يسبب لى ضيقًا إلا خلال حكم الإخوان، وفيما بعد سقوطهم «غير مأسوف عليهم».
وتضيف: «عدد كبير من أولياء أمور الأطفال فى الحضانة سحبوا أطفالهم منها، وكنت أحس فى نظراتهم بشىء من الغضب تجاه مظهرى، وهو الأمر الذى انعكس سلبا على دخلى، وبعد أن كنت أفكر فى التوسع، أصبحت الآن أفكر فى غلق الحضانة التى تعمل بأقل من %25 من طاقتها الاستيعابية.. أما فى الشارع، فلم أعد أسلم من الشتائم ومن الدعاء علىّ وعلى أسرتى.. كل هذا لأن الإخوان بما اقترفوه من خطايا تسببوا فى أن يصبح الشارع المصرى على هذا النحو من الاستقطاب».
وتضيف: «بعض المقربين نصحونى بأن أخلع النقاب وأكتفى بالخمار «الحجاب»، هذا لأن النقاب ليس فرضًا، وهو ما فعلته مؤخرًا، رغم أنفى، لكنى أريد أن أعيش باعتبارى مواطنة مصرية عادية، لا إرهابية أو وهابية متشددة، كما كان البعض يصنفنى».
وتروى علا أن ولى أمر أحد الأطفال فتح وإياها نقاشا حول اعتصام رابعة قبل فضه، ففهمت من كلامه أنه يريد اختبارى أو التعرف على اتجاهى السياسى، والحقيقة أننى لم أغضب من ذلك، فأنا أتولى تربية طفله الذى يمكث بالحضانة يوميا نحو ثمانى ساعات، وقد أكدت له أنى لست ذات توجهات سياسية، وما أرتديه إنما هو فى سبيل الالتزام، وهو أمر بينى وبين ربى، فتفهم الأمر، غير أن ولى أمر آخر، وجه لى شتائم فى منتهى البذاءة، ووصفنى بالخلية النائمة، ذلك لأن له متجرا تعرض للحرق خلال مظاهرات الإخوان، عندئذٍ غرقت فى نوبة من البكاء الحاد، وغضبت غضبا جارفا من أنى أخضع لعقاب على ذنب لم أقترفه.. وتختتم: «هذا ما جناه مرسى علىّ وما جنيت على أحد».
يعلق محمد طلبة، مؤسسة حركة «سلفيو كوستا» على الأمر قائلا: كان نزول الملايين فى الميدان فى 25 يناير كفيلا بالقضاء على أى تمييز ضد أى فئة من فئات الشعب، وخاصة أن الشعب تأكد فى ذلك الوقت من أن الحقوق لن تعود إلا مع التكاتف والحرص على الوحدة الوطنية، مضيفاً: «كان الميدان بما يضمه من فسيفساء بشرية على قلب رجل واحد.. كل الحناجر كانت تردد نفس الهتاف، وكنا جميعا مسلمين وأقباطا، نتولى تأمين الميدان ونحفظ ثورتنا.. عندئذ تأكد الشعب المصرى من أن أصحاب اللحية ليسوا مجرمين، ومن أن القبطى ليس كافرًا».. انتهت لعبة «فرق تسد» التى استخدمها نظام مبارك لشق الصف الوطنى، حتى أطفأت تيارات الإسلام السياسة هذه الشعلة المباركة مع أول اختبار.
ويقول: «فى استفتاء 19 مارس على تعديلات الدستور، ومع نمو الخطاب الذى روج لخرافة أن التصويت بـ«نعم» حلال وبـ«لا» حرام، تعرضت الوحدة الوطنية لشروخ، كان من الممكن ترميمها، لكن رموز الإخوان ومن لف لفهم، ساهموا فى تعميق الشروخ، حتى انتهى الأمر بأن أصبح المجتمع محتقنا يعانى من الاستقطاب ضد بعضه بعضا».
ويطالب محمد طلبة وسائل الإعلام بأن تطلق حملات موسعة لتثقيف المجتمع بأن لا علاقة بين الانتماء السياسى وإطلاق اللحية أو ارتداء النقاب، مشيرا إلى ضرورة التركيز على ما يساهم فى عودة روح ميدان التحرير إلى الشارع المصرى، لأن هذه الروح كفيلة بأن يعود المصريون كما كانوا على مر العصور «فى رباط متين».
ويقول: «بشكل شخصى ولأنى معروف بمعارضتى لجماعة الإخوان، لم أتعرض لمضايقات إلا قليلا، وهى محض سلوكيات فردية، تقديرى أنها ستنتهى لأن هذا الوضع يعد أمرا غريبا على الشعب المصرى».
لكن عدم تعرض طلبة لما يزعجه، لا يعنى أن كل الملتحين يمارسون حياة طبيعية، حيث يذكر مؤسس «سلفيو كوستا» أن صديقا ملتحيا له اضطر إلى أن يضع فى عنقه سلسلة تحمل شعارا يفيد بأنه ضد الإخوان ومرسى فى المترو، وذلك حتى لا يتعرض لمضايقات الركاب، كما اضطر صديق آخر إلى أن يحمل لافتة بأنه لا ينتمى إلى أى تيار إسلامى لكى يسير فى المظاهرات المعارضة، كما أن كثيرًا من الأصدقاء اضطروا إلى التخلص من لحاهم، خوفا من الشحن المجتمعى ضدهم فى الوقت الراهن، وذلك رغم أنهم جميعا لا يتبعون أى تيار سياسى».
من جانبه يؤكد مصطفى الحدة، المحامى بمركز «سواسية» لحقوق الإنسان وعضو ائتلاف مراقبون لحماية الثورة أن إلصاق جميع التهم فى الفترة الأخيرة للإسلاميين دون تحديد هويتهم أو انتمائهم أو الفصل بين الشخص المتدين والشخص المنتمى لتيار الإسلام السياسى، يجعل هناك خلطا لدى المواطنين بأن كل من يطلق لحيته أو ترتدى نقابا «إرهابيا»، وهو أمر مغلوط يروح ضحيته عدد كبير من الأبرياء، وسيدمر الوحدة الوطنية التى يجب أن يعمل الجميع على استعادتها فى الوقت الراهن.