مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ، عَرَفَ رَبَّهُ


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول الله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: 21]
صفـــات النفس البشريــــة
سنرى صفات الإنسان التي وردت في القرآن الكريم؛ لنتوصل لفهم أنفسنا ومعرفتها ونتمكن من علاج آفاتها .. وتلك الصفات موجودة في نفس كل واحدٍ منا إلا من هدى الله، ولا يمكن استبدالها بصفات صالحة إلا بالإيمـــان ..
الصفة الأولى: ضعيـــف ..
قال تعالى {.. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28]
فالأصل إنك ضعيف ولن تستطيع أن تتخذ أي قرار وتنفذه بحولك وقوتك، بل عليك أن تستقوي بالله وتطلب منه أن يمدك بالعون والقوة .. فإذا أردت أن تقلع عن ذنبٍ ما، لابد أن تركن إلى الله سبحانه وتعالى؛ لتستمد القوة من القوي جلَّ جلاله.
الصفة الثانية: جحــــود ..
فالإنسان يجحد النِعَم وينساها، وهذا شأنه منذ خلق الله تعالى آدم .. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لما أتى آدم ملك الموت ".. قال له آدم: قد تعجلت قد كُتِبَ لي ألف سنة، قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة. فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود"[رواه الترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع (5209)]
يقول تعالى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: 12] .. فإذا مر بك أي ابتلاء تجتهد في الدعــاء وأنت مُنكَسِر القلب مُخبت لله، فإذا كشف الله عنك الضر نسيت ما كان منك وجحدت نعمة ربِّك عليك.

الصفة الثالثة: يئــــــوس ..
يقول تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: 9]
فالإنسان سريعًا ما يتسلل إلى نفسه الإحباط والقنوت، يقول الله جلَّ وعلا {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}[الإسراء: 83] .. فإذا أنعَم الله على الإنسان بنعمة فَرِحَ بها وأعرض عن ربِّه ، فلا يشكره ولا يذكره .. أما إذا ابتلاه الله بمرض أو فقر أو نحوه، يأس من الخير وقطع رجاءه من ربِّه.
الصفة الرابعة: كفور ..
وهي من أكثر الصفات التي وردت في القرآن عن الإنسان، قال تعالى {.. وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] .. أي: طبيعته كفران النعمة السابقة، والتسخط لما أصابه من السيئة.
ولهذا لابد أن تتذوق مرارة هذا الإحساس في حيــاتك، فتجد من أحسنت إليهم ومددت إليهم يد المساعدة يردون إليـــك الإحســان بالإســاءة .. فإذا كنت تشعر بصعوبة كفران الآخرين بحقك أنت ..
فمن أنت أيها الإنسان حتى تتكبَّر في الأرض وتكفر بنِعَم الله التي أسبغها عليك؟!
الصفة الخامسة: ظلوم ..
قال تعالى {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]
فالإنسان كثير الظلم لنفسه،يعلم طريق الحق والهداية الذي قد بيَّنهُ له الله سبحانه ومع ذلك شهوات نفسه تغلبه وتجعله يسير في طريق الغواية والضلال.
الصفة السادسة: جهـــول ..
قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاالأحزاب: 72
ومهما أوتي الإنسان من علم يظل جهولاً .. كما في قوله تعالى {.. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (*) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6,7] .. وليس معنى هذا عدم طلب العلم الدنيوي، وإنما كلما إزداد الإنسان علمًا في الدنيـــا ينبغي أن يزداد معرفةً بربِّه ..
وأعظم جهل الإنســان:: جهله بربِّه وجهله بنفسه ..
وما من مشكلة تقع فيها في حيــاتك إلا وسببها:: عدم الفهم عن الله تعالى،،
الصفة السابعة: خصيــــم ..
قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[يس: 77]
فقد خُلِقَ الإنسان من ماءٍ مهين ومع ذلك ينسى قدر نفسه وأنه لا يساوي شيئًا في هذا الكون الفسيـــح، وكلما أتاه أمرٌ من خالقهِ فإنه يُجـــادل ويُطالب بالأدلة كأنه يُخـــاصم ربَّه .. مع أنه يجب عليه أن ينصـــاع لشرع ربِّه ويقول: سمعنا وأطعنا.
الصفة الثامنة: عجــــــول ..
قال تعالى {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء: 37]
خُلِقَ الإنسان عجولاً يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها .. ويتعجَّل قطف الثمرات، فإذا لم يَجِد حلاوة الإيمان في عبادة من العبادات يملَّ ويتوقف عنها .. والعجلة قد تؤدي لنتائج سلبية في كثير من الأمور، فعليه أن يتأنى.
يقول تعالى {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}[الإسراء: 11] .. وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله بلطفه يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر .. {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ..}[يونس:11] [تفسير السعدي]

الصفة التاسعة: قتـــــور ..
قال تعالى {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}[الإسراء: 100]
فالإنسان مطبوع على الشُح والبخل،يبخل أن يُصَرِّف نِعَم الله تعالى عليه في مرضاته .. ولو كانت معه خزائن الله التي لا تنفد لأمْسَك خشية أن تنفد.
الصفة العاشرة: جَدِل ..
قال تعالى {وَلَقَدْصَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[الكهف: 54]
عَنْ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ لَيْلَةً، فَقَالَ"أَلَا تُصَلِّيَانِ؟"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[متفق عليه]
وهكذا الإنسان دائمًا، يُجادل ويبرر أفعاله ويتحدث كثيرًا دون أن ترى منه أفعالاً.
 الصفة الحادية عشر: مُتَكَبِّـــــر ..
قال تعالى {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر: 49]
فالكِبر من آفات الإنسان الأساسية، يرى نفسه بعين الكمال وإذا أنْعَم الله تعالى عليه يحسَب أن ذلك لكرامته على الله وهو في الأصل مسكين.
الصفة الثانية عشر: موسوس ..
قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16]
عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام قَالَ "لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ"[صحيح مسلم]
فيسْهُلُ للشيطان أن ينفُذ إلى باطن الإنسان ويوسوس إليه بأحاديث النفس .. ولكن حين يَعْتَصِم الإنسان بربِّه ويستعِذ به من الشيطان، سيحميه من وسوسة الشيطان ويحرس قلبه.
الصفة الثالثة عشر: هلــــوع ..
قال الله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (*)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (*) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج: 19,21]
وللهلع عدة معاني، منها:
إنه شديـــد الجزع .. عندما يصيبه شرًا ما لا يصبر عليه، وإذا أنْعَم الله تعالى عليه كان منوعًا بخيلاً ..
ومنها: شدة حرصه على الدنيـــا .. عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"[رواه الترمذي وصححه الألباني] .. أي: إن الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدين من إفساد الذئبين الجائعين للغنم. [فيض القدير]
ومنها: أنه دائـــم الضجر .. يملَّ سريعًا حتى عند قيـــامه بالطاعات، ينصرف قلبه عنها ويبحث عن التغيير.
الصفة الرابعة عشر: فجــــور ..
قال الله تعالى { بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (*) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة: 5,6]
فمن طبع الإنسان أنه يحب المخالفة والمرواغة .. يَعجَل بالذنوبَ ويُسوِّف التوبة.
الصفة الخامسة عشر: مغرور ..
يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الإنفطار: 6]
يغتَر بحلم ربِّه الكريــم وسترهِ عليه، ولا يدري أن العقوبة قد تأتيــه بغتةً.
الصفة السادسة عشر: شقي ..
قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]
فالحيــاةُ الدنيــا دار شقــاء وتعب، ولا راحة إلا في الجنـــة .. كما في قوله تعالى { فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]
فإن كنت تكابد الشدائد لأجل الله وحده، ستجده ربٌّ شكـــور ..
أما إن كان لغيره، فستلقاه وهو ربٌّ عزيـــز،،
الصفة السابعة عشر: طاغيـــــة ..
قال تعالى { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (*) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6,7]
فالإنسان لجهله وظلمه يحْسَب أنه قادرٌ على الاستغناء عن ربِّه جلَّ وعلا، فطغى وبغى وتجبَّر عن الهدى، ونسي أن إلى ربِّه الرجعى.
الصفة الثامنة عشر: كثيــــر النسيـــان ..
قال تعالى { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23]
فمن صفات الإنسان الأساسية أنه كثير النسيان، يبدأ بنسيان أوامر ربِّه له شيئًا فشيئًا حتى تُحيط به الغفلة من كل مكان فيسير في الأرض تائهًا ولن يفيق من تلك الغفلة حتى بعد أن يقوم يوم القيامة وتظهر الحقائق لجميع الخلائق ..
قال تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَالْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[مريم: 39]
الصفة التاسعة عشر: كنـــــود ..
قال تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديــات: 6]
والكنود هو الذي يَعُد المصائب، وينسى نِعَم ربِّه عليه .. فهو دائم اللوم يتسخَّط على قدره ويتسائل عن سبب إصابته بالمصائب، وخيرهُ لا يتعدى نفسه.
الصفة العشرون: خــــاسر ..
قال تعالى {وَالْعَصْرِ (*) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر: 1,2]
فالإنسان خـــاسر لا محالة مهما أوتي من مكاسب دنيــويـــة ..
إلا من حقق الثلاثة شروط للفلاح في الحيــــاة، وهي:
علم وعمل ودعوة إلى الله تعالى ..
{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 3]
تلك عشرون صفة تتصف بها نفس الإنســان بطبيعتها، ولن نستطيــع التخلُّص منها إلا بتربيـــة نفوسنـــا بالإيمــان ..


المسلم إنسان يثق دائما بنفسه , وهو يستمد ذلك من ثقته بربه وخالقه , فهو لا يهتز أمام العواصف والأعاصير , والمسلم الواثق بنفسه يتصف بصفات كثيرة منها :
1- يمارس فريضة التفكير :
خلق الله تعالى الإنسان وزوده بنعمة العقل والتفكير ، وحثه على زيادة النظر في الكون ، فهذا مفتاح من مفاتيح الإيمان والهداية ، وصفة من صفات أولى الألباب قال تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } سورة آل عمران آية : 191 .
ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تفكيراً وتأملاً فيما خلق الله تعالى ، وفى سير الماضين وهو الذي قال : ( لا عبادة كالتفكر ) وقال : ( إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه ) رواه الديلمي في مسنده : كشف الخفاء ، جـ1 ، صـ81 . .
والإنسان العاقل وهو يمارس دوره في هذه الحياة لابد له من ممارسة التفكير ؛ وذلك حتى يكون قادراً على فهم دوره ، وإحسان ما يقوم به من عمل فتحسين التفكير كتحسين العمل والتصرف كتحسين كل هذه التطلعات والمطامع لا تتحقق ولا يبلغها المرء إلا بشئ واحد ووسيلة واحدة هي السيطرة على النفس .
والواثق من نفسه دائماً يعمل عقله فيما بين يديه ، ويمارس التفكير الصائب الواعي .

2- يعرف طريقه ويخطط لحياته :

الواثق من نفسه يعرف طريقه جيداً ـ ويخطط لكل أمور حياته ، ويحدد أهدافه بكل دقة ، فلا يدع غيره يفكر له ، ولا يترك نفسه للظروف ، لأنه هو الذي يصنعها وليست هي التي تصنعه ، ولقد وصف الله هؤلاء في كتابه الكريم فقال { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } سورة الملك : آية : 22 . .
ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ، فقد كان يخطط لكل أموره ، فها نحن نراه في الهجرة الكريمة يحدد لكل واحد دوره وماذا يفعل ؟ وفى جميع غزواته كان ينظم جيشه ويحدد لكل قائد هدفه . وكل ما يصنعه الإنسان أو يمتلكه يبدأ في شكل من أشكال الرغبة وأن هذه الرغبة تبدأ رحلتها من المجرد إلى الملموس من خلال ورشة الخيال حيث تصنع وتنظم خطط تحويل الرغبة إلى مادة .
والإسلام العظيم لم يترك الإنسان يعيش حياته عبثاً ، بل أرشده إلى كل ما يصلح حياته من كافة النواحي ، الذاتية والعامة مادياً وروحياً وعقلياً وإنسانياً ، وكل ذلك من أجل أن يبذر فيه بذرة الثقة والثبات على المبدأ .

3- لا يسمح للقلق أن يدمر حياته :

القلق يفقد الإنسان سكينه النفس وأمنها ورضاها ، ويجعله يتحسر على ماضيه ، ويسخط على حاضره ، ويخاف من مستقبله ، والقلق يمارس نشر نشارة الخشب ، ويستسلم لآلامه وأحزانه وحسراته على ما فاته ، وكان أولى به أن يقول :

ما مضى فات ، والمؤمل غيب * * ولك الساعة التي أنت فيها
يقول صاحب كتاب " دع القلق " " لقد وجدت أن القلق على الماضي لا يجدي شيئاً تماماً كما لا يجد بك أن تطعن الطعين ، ولا أن تنشر النشارة وكل ما يجديك إياه القلق ، هو أن يرسم التجاعيد على وجهك ، أو يصيبك بقرحة المعدة " ، والقلق يهزم صاحبه قبل أن يبدأ المعركة ، فمن ظن أنه قد هزم فقد حزم حقاً ، ومن ظن أنه ليس مقداماً فلن يكون مقداماً ، ومن ظن أنه يفوز فلن يفوز أبداً .
ولا نقول بأن القلق شر كله بل إن القلق إحساس لا غنى عنه ولا استغناء ، إنه لازمة لابد منها ، إنه الحافز والموجه والمنبه ... ولكنه إحساس يجب أن نلجمه لئلا ينقلب إلى وحش مفترس . فالانفعالات المتضاربة التي ينبت منها القلق إن تركت حرة تعيث فساداً وتقضى على العاقل عاجلاً أو أجلاً.
لذا فإن الإسلام يرفض من المسلم نظرة اليأس والتشاؤم ، قال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } سورة يوسف آية : 87 . وقال أيضاً : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } سورة الحديد آية : 22- 23 .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً يحتذي في عدم اليأس والأمل الكبير في الله عز وجل فعلى الرغم مما فعله معه كفار مكة من أذى وعناد وتعذيب ، ورفض وإنكار لدعوته ، إلا أن اليأس لم يتسرب إلى قلبه بل ظل واثقاً بنصر الله تعالى ، ويطمأن أصحابه بقوله : " لكنكم تستعجلون " ، وكان صلى الله عليه وسلم دائماً " يتفاءل ولا يتطير " رواه أحمد .
ويرفض أن يفتح المسلم على نفسه أبواب الشيطان بكلمة " لو " أو " ليت " ، وحذر صحابته من الاستسلام للهموم ، فقد رفض مسلك أحد صحابته بالجلوس في المسجد والاستسلام لهمومه وعلمه أن يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، وهو بذلك يريد أن يغرس بذور الأمل والتفاؤل في نفس المسلم حتى يواجه مصاعب الحياة بنفس مؤمنه واثقة وذلك لأن " الأمل متفائل بما يلقاه في الحياة مستبشر بأيامه القادمات ، يحمل ما يراه على المحمل الحسن ، وهذا يؤدى به إلى مزيد عطاء وانطلاقة خير " محمد أبو صعليك : الأمل وأثره في حياة الأمة ، صـ 25 ..
ولكي يبعد الإنسان عن نفسه منابع القلق والقنوت واليأس عليه أن يعيش في حدود يومه ، ولا يزحم رأسه بالقلاقل والأفكار المتشعبة والمستحيلة في بعض الأحيان " فكل ما تحتاج إليه من أجل النجاح هو فكرة واحدة معقولة قابلة للاستعمال ، فإن أهم نقاط الضعف في الجنس البشرى هي اعتياد الإنسان العادي على كلمة ( مستحيل ) فهو يعرف كل القواعد التي لا تنجح ويعرف كل الأمور التي لا يمكن تنفيذها ، ولقد أصاب النجاح كل الذين امتلاء وعيهم بالنجاح وكيفية تحقيقه ، أما الفشل فيصيب أولئك الذين يسمحون للفشل دون اكتراث أن يمتلك وعيهم. فاليأس والقلق عدوان للتفاؤل والثقة ولا يمكن لهما أن يجتمعا أبداً .

4- إيجابي .. يبادر ولا يتردد :

وصف الله تعالى أمة الإسلام بأنها خير أمة أخرجت للناس ، لأنها أمة إيجابية ، لا ترضى بغير الحق منهاجاً وطريقاً ، فلا ترى الباطل وتتطامن عنه ، ولا ترى الخير والمعروف ثم لا تتخذه شعاراً وسبيلاً ، قال تعالى :{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } سورة آل عمران آية : 110. ولقد ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على الايجابية وعدم السلبية فأمر المسلم بأنه إذا رأى منكراً بأن يغيره قدر استطاعته ( بيده ، أو بقلبه ، أو بلسانه ) لأنه مسئول وكل واحد مسئول عن نفسه وعمن يعول .
ولقد حذرنا - صلى الله عليه وسلم - من الإمعية فقال : " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا ألا تظلموا " رواه الترمذى وحسنه . .
ومن الايجابية أن يتحمل المسلم مسئولية كاملة نحو نفسه ومجتمعه وأمته ، ولا يكون كما قال الشاعر :

كريشة في مهب الريح طائرة * * لا تستقر على حال من القلق
ومن الايجابية أن يبادر المسلم ولا يتردد فإن من أشر الناس عند الله تعالى ذو الوجهين ، فالمتردد خائف وجل يفوت على نفسه فرص النجاح ، أما الواثق فهو دائماً يبادر ولا يخاف .
في غزوة بدر تقدم الحباب بن المنذر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما نزل المسلمون بأسفل بئر بدر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم منزلة ثم تغور ما وراءه من القلب ثم نبنى عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله : لقد أشرت بالرأي ..." سيرة ابن هشام ن جـ2 ، صـ197 – 198.
فالحباب إنسان مبادر ، اكتسب صفة المبادرة ، وهى صفة لا تليق إلا بالواثق ، فحينما تريد أن تكتسب عادة حسنة جديدة فعليك بالقناعة ثم الرغبة ثم ابدأ بقوة شديدة وعزيمة قوية ولا تتوان مرة واحدة عند إتباع العمل الجديد حتى ترسخ العادة الجديدة فيك بعد أن تصمم على العمل اغتنم أول فرصة وكل فرصة للقيام به . قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر الصديق – رضي الله عنه - : " ما عرضت الإسلام على أحد ، إلا كانت له كبوة عدا أبى بكر ؛ فإنه لم يتلعثم " .
يروى أنه حينما تولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه وفد من اليمن للتهنئة بالخلافة وكان يتقدم هذا الوفد طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره فلما رآه عمر قال له : يا غلام تأخر وليتقدم من هو أكبر منك سنا ، فقال الغلام المبادر الواثق من نفسه ـ يا أمير المؤمنين ، إنما المرء بأصغريه قلبه ,لسانه ، فإذا أعطى المرء قلبا حافظاً ، ولساناً لافظاً فقد استحق الذكر وإذا كان الأمر كذلك – أي بالسِن - ففي المدينة من هو أكبر منك سِنا أولى بالخلافة منك " فأعجب به أمير المؤمنين وأنشده :

تعلم فإن المرء لا يولد عالماً *** وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
وإن كبير القوم لا علم عنده *** صغير إذ التقت عليه المحافلُ

والإنسان الواثق المبادر ثابت على المبدأ لا يتزعزع ولا يتلون قال الشاعر :
إذا قلت في شئ نعم فأتمه * * فإن نعم دين على الحر واجبُ
وإلا فقل لا تسترح بها * * لئلا يقول الناس : إنك كاذبُ
وإيجابية المسلم يجعلها ديدنه لكل تصرفاته حتى مع الجمادات .
فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له " رواه البخارى ومسلم . .

5- طموح ذو همة عالية :

المسلم إنسان طموح ذو همة عالية ، وأمل عريض فهو يعلم " أن الله تعالى يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها" رواه سهل الساعدى ..
وإن الكيس العاقل هو صاحب الهمة العالية الذي يدين نفسه ويعمل لما بعد الموت ، وأن العاجز هو الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأمانى .
ولقد أمرنا الله في كتابه الكريم بحسن الجهاد في الله فقال : " وجاهدوا في الله حق جهاده." سورة الحج آية : 78 . والجهاد لا يكون إلا من صفات صاحب الهمة العلية ، والمؤمن لا ترضى همته إلا بالجنة .
جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صاحبته وأخذ يوزع عليهم الصدقات ، ويعطى كل واحد مسألته وكان يجلس بجواره ربيعة بن كعب الأسلمى ، وكان من أفقر الناس ، ولكنه لم يسأل النبي شيئاً فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - سلني يا ربيعة ، فقال : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال يا ربيعة أعنى على نفسك بكثرة السجود " .
فهمة المؤمن في أعلى عليين ، وهمته في العلم والعمل سواء . قال عبد الرحمن الأوزاعي : ( إن المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل ، وإن المنافق يكثر الكلام ويقل العمل ) أبوبكر الفريابى : صفة النفاق وذم المنافقين ، صـ65 .
ولا عجب حينئذٍ حينما نسمع أن بعض الصحابة مثل أبى أيوب الانصارى قد رحل من الحجاز إلى مصر لسماع حديث واحد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
أصحاب الهمم العالية لا يرضون بغير القمة بديلا وإن المخترعين والمستكشفين والمصلحين والفلاسفة لم يكونوا ملائكة أو شياطين ، ولكنهم كانوا رجالاً أمثالكم تملكهم الأمل فبذلوا في سبيله كل جهودهم وقلوبهم حتى أدركوه. والعاقل هو من يثبت ذاته بما يرفع قدره ويجلب له النفع ويكسبه احترام الناس .
ومن الأمور التي ترفع من همة المرء : أن يجدد أهدافه في الحياة ويجدد علاقاته ولا يركن إلى الخمول ، ويعشق العمل ، ويغتنم الفرصة ، قال الشاعر :

إذا هبت رياحك فاغتنمها* * * فإن لكل خافقة سكونُ
ولا تغفل عن الإحسان فيها * * * فما تدرى السكون متى يكونُ
إذا ظفرت يداك فلا تقصر* * * فإن الدهر عارية يخونُ
6- يسيطر على نفسه .. فلا يغضب ولا يحقد :
من أهم صفات الإنسان الواثق من نفسه أنه لا يترك فرصة للغضب أن يسيطر عليه أو يتحكم فيه ، لأن تحكم الغضب على نفس المرء دليل على ضعف نفسه ، ونقص إرادته لذا فقد جعل الله تعالى من صفات المؤمنين المتقين أنهم يسيطرون على أعصابهم فلا يسترسلون مع غضبهم ولا يسمحون له بأن يحطم حياتهم ، قال تعالى { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } سورة آل عمران آيات : 133 – 134 . .
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى القوة الحقيقية بأنها وثوق الإنسان وإرادته في تملك نفسه والسيطرة على أعصابه عند الغضب ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قالوا : الذي لا يصرعه الرجال ، قال : ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب رواه مسلم . .
وفى القرآن الكريم أمثلة عديدة من حياة الأنبياء على جهل قومهم عليهم ومقابلتهم ذلك بالصبر الجميل .. فها هو هود عليه السلام أرسله الله إلى عاد ولكنهم ماذا قالوا له وماذا قال لهم قال تعالى { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } سورة الاعراف آيات : 66- 68 . .
ولقد كان رسولانا الكريم قدوة حسنة في ذلك فلم يغضب لنفسه إنما كان يغضب لله تعالى إذا انتهكت حرمة من محارمه . روى في ذلك أن إعرابياً جاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه ، ثم قال له : أأحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا ولا أجملت ، فغضب المسلمون ، وقاموا إليه فأشار إليهم النبي أن كفوا ، ثم قام ودخل منزله ، فأرسل إليه وزاده ، ثم قال : أحسنت ، قال : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال النبي : إنك قلت ما قلت أنفاً وفى نفس أصحابي من ذلك شئ ، فإن أحببت فقل أمامهم ما قلت حتى يذهب ما في صدورهم عليك ، ففعل الرجل ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن مثلى ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فقال لهم صاحبها خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم ، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوي عليها " .
فالقوى هو من يقوى على كبح جماح نفسه وكلما ارتفع الإنسان درجة في سلم السيطرة على نفسه زادت ثقته بها ، وكلما تأكدت له كفاءته أو قدرته في مراقبة حياته النفسية ، ارتفع فوق الوسط وأخذ في التحليق صعداً.
وكل إنسان أخبر بنفسه ويعرفها جيداً " رحم الله امرأ عرف قدر نفسه " فكل فرد يعرف ضعف نفسه أو قوته من خلال نجاح هذه النزاعات لأن من استطاعت إرادتهم أن تتغلب بشكل طبيعي وبسهوله على الانفعالات ، وأن توقف حركات الجسم التي تصاحبها كانوا يملكون دون شك النفوس الأقوى.
والعاقل هو الذي لا يترك التوافه وصغائر المشكلات أن تهدم سعادته وتحطم حياته ويغضب لأتفه الأسباب ، فيوصله الغضب إلى الحقد والضغينة فيفقد تماماً ثقته بنفسه وبمن حوله .
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم " عن أفضل الناس فقال : كل مخموم القلب صدوق اللسان ، فقيل : صدوق اللسان نعرفه ، فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقى النقى لا إثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد " رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو . ، فالواثق لا يغضب ولا يحقد .

7- يواجه أخطاءه بكل شجاعة :

الواثق لا يهرب من أخطاءه بل يواجهها بكل شجاعة وإقدام ، فهو ابتداء يحرص كل الحرص على إذلال نفسه بأن يوردها المهالك ، ويضعها كل يوم مواضع الاعتذار وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فقال في بعض وصاياه : " وإياك مما يعتذر منه " رواه الحاكم والبيهقى . ، ولكن الإنسان بطبعه ناسٍ خطاء ، ولكن صاحب النفس القوية الشجاعة ، والهمة العالية لا يرى الاعتذار عن خطأه منقصة له ، ولا إقلالاً من شأنه ولا آخذا من مكانته .
ولقد علمنا القرآن الكريم الشجاعة في الاعتذار عن الخطأ ، ففي غزوة أحد حينما أصاب المسلمين ما أصابهم بسبب مخالفتهم أوامر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن ذلك كله من عند الله ولكن الله تعالى قال لهم { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سورة آل عمران آية : 165 . .

8- يصبر على المصائب ويتحمل الشدائد :

وصف الله تعالى المؤمنين الصالحين في كتابه الكريم بأنهم يصبرون في البأساء والضراء وأنهم يواجهون المصائب بالصبر الجميل قال تعالى : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } سورة البقرة آيات : 156-157 فالعاقل المؤمن لابد أن يدرك جيداً أن الله تعالى خلقه لحكمه ومنها اختباره ، حتى يمحصه ويقوى إيمانه فما يصيبه من شئ فهو داخل في مجال الاختبار والابتلاء وعليه أن يصبر ويتجمل بالصبر ، وفى الحديث الذي رواه الشيخان " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " .
فماذا يجدي العاقل إذا سخط وتبرم على قدره وإنها لحماقة كبرى تلك التي يقترفها من لا يتجملون بالصبر والإيمان حين تحل بهم الشدائد والنكبات ، وأية حماقة أكبر من أن يثور المنكوب ويفقد رشده فيحاول في جنون أن يضرب الأرض بقدميه ، وأن ينطح الجدران برأسه ، إن هذا المسكين لن يخفف ذلك من نكبته بل هو على عكس ذلك يضعف من قدرته على مواجهتها فيضاعفها من حيث لا يدرى.

9- يتواضع في غير ذل ، ويلين في غير ضعف :

حرم الله تعالى الكبر والإعجاب ، فالعزة والكبرياء من صفاته تعالى وحده قال تعالى في حديثه القدسي " العزة إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته رواه مسلم . ، وقد جعل الله تعالى الآخرة للمتواضعين ، قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } سورة القصص آية : 83 . .
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف ( الذلول ) إن قدته إنقاد وإن أنخته أناخ "
وليس التواضع أن يذل الإنسان لغيره ، فالمؤمن عزيز النفس في كل شئ ، وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفس محمد بيده لن تموت نفس قبل أن تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بغير طاعته فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ".
فالتواضع الحقيقي هو اللين في غير ذل ولا ضعف وعدم التفاخر والتكبر على عباد الله ، فالمتكبر المغرور إنسان ناقص الإرادة فاقد الثقة بنفسه وبمن حوله .
قال الشاعر :

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر* * * على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه* * * فوق طبقات الجو وهو وضيع
قال رجاء بن حيوة : سمرت ليلة عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فعشى السراج ، فقلت : يا أمير المؤمنين ألا أنبه هذا الغلام يصلحه ؟ قال : لا دعه ينام لا أحب أن أجمع عليه عملين ، فقلت : أفلا أقوم أنا فأصلحه ؟ قال : لا فليس من المروءة استخدام الضيف ، ثم قام بنفسه فأصلحه ووضع فيه الزيت ثم جاء وقال : قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر .

10- واثق في مظهره وفى تصرفاته :

الثقة بالنفس يظهر أثرها على صاحبها في سلوكه ومظهره ، في شكله وفى مخبره ، بل وفى جميع تصرفاته .فتجده نظيف الثياب ، حسن الهيئة ، طيب الرائحة مصداقا لقول الله – عز وجل – { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } سورة البقرة آية : 222 .
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة." رواه مسلم ..
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل والقدوة في ذلك ، قال أنس في وصفه صلى الله عليه وسلم " ما شممت مسكا قط ولا عطرا أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم " الحكيم الترمذي : الشمائل المحمدية ، صـ182 . ، بل كان من خلقه أنه إذا خرج إلى أصحابه أن يصلح من شعره وهندامه ويتطيب لهم .
والواثق من نفسه تجده أيضاً تعلو البسمة وجهه ، فلا تراه إلا مبتسما متفائلاً . وفى الحديث " تبسمك في وجه أخيك صدقة " وفى الحديث المرفوع " اطلبوا الخير من حسان الوجوه " .
فالمعلوم أن تعبيرات الوجه تتكلم بصوت أعمق أثراً من صوت اللسان ، فكأني بالابتسامة تقول لك عن صاحبها : إني أحبك ، إني سعيد برؤيتك " .
والإنسان حينما يبتسم فإنه يستخدم ثلاث عشرة عضلة من عضلات وجهه ، في حين أنه يستخدم أربعا وسبعين عضلة عندما يعبس أو يتجهم .
والواثق من نفسه إذا قابل أحداً فإنه يبدأه بالسلام ويحيه بتحية أحسن من تحيته له ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ، وقال : " ألا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشو السلام بينكم " وقال : " إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة أو حائط ثم لقيه فليسلم عليه " العجلونى : كشف الخفاء ، جـ1 ، صـ 104 . .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقى رجلا يكون : " أول من يبدأ بالسلام والمصافحة وهو آخر من ينزع يده " رواه أبو داود ..
وقد حببنا في ذلك فقال فيما يرويه عنه حذيفة بن اليمان " إن المؤمن إذا لقى المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهم كما يتناثر ورق الشجر " الهيثمى : مجمع الزوائد جـ8 ، صـ36 .
ومن الثقة أن تنادى أخاك بأحب الأسماء والكنى إليه فهذا مما يغرس بينكما الثقة والألفة والمحبة ، قال حنظلة بن جذيم : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو الرجل بأحب أسمائه إليه وأحب كناه " الهيثمى : مجمع الزوائد ، جـ8 ، صـ56 . .
والثقة بالنفس تظهر – كذلك – في الحديث ، فالواثق من نفسه يرتب كلامه قبل أن يخرجه من فيه ، ولا يتكلم إلا بالحق ، قالوا في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان دائم الفكرة ... طويل السكون لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله تعالى ، ويتكلم بجوامع الكلام ، كلامه فصل ، لا فضول ولا تقصير " الترمذي : الشمائل المحمدية ، صـ20 . ، وجاء في وصف كلامه كذلك منطقا ، حتى أن كلامه يأخذ بالقلوب ، ويسبى الأرواح " ابن القيم : زاد المعاد ، جـ1 ، صـ46 ..
فالإنسان مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر.
جاء عمر بن الخطاب رجل يشهد لرجل فقال له : هل تعرفه ؟ قال : نعم قال : هلى صاحبته في السفر الذي تعرف به مكارم الأخلاق ؟ قال : لا , قال : هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به ورع الرجل ؟ قال : لا ، قال هل أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه ؟ قال لا : قال : لعلك رأيته قاعداً وقائما يصلى في المسجد ؟ قال : نعم ، قال : إذن فأنت لا تعرفه .
فانظر إلى هذا الرجل حينما تكلم ظهر من كلامه عدم الثقة فيما يقول ويدعى .
ومن الثقة أن يستمع المرء للناس كما يستمعون إليه ، حينما جاء عتبة بن الوليد يكلم الرسول في أمر الإسلام ويعرض عليه المال والملك والجاه والرسول - صلى الله عليه وسلم - ساكت حتى انتهى عتبة من كلامه فهذا تصرف الواثق الذكي .
تظهر الثقة – كذلك – في مشية الإنسان " فواثق الخطوة يمشى ملكاً " ، وقد وصف الله في قرآنه مشية عباد الرحمن فقال { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } سورة الفرقان آية : 63 . ، قال السلف في تفسير هذه الآية : المشى بسكينه ووقار من غير تكبر ولا تماوت وهى مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفى وصف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم أنه " كان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها " .
قال أبو هريرة " ما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله ، كأنما الأرض تطوى له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث " ابن القيم : زاد المعاد ، جـ1 ، صـ42.
كما أنه كان إذا مشى لا يلتفت وراءه . وهذا يدل على الشخصية المتكاملة .
من صفات الواثق – أيضاً – أنه ذكى لماح لبق في كل تصرفاته يحاول أن يروى للآخرين ما يلذ لهم ، ولا يفشى أسرارهم أو يتحدث عنهم بما يثيرهم ، ولا يسخر من أحد ويكتسب مهارة القول المناسب في الوقت المناسب ، ولا يكن ثرثاراً ، بل يستمع أكثر مما يتكلم .
قال أبو الدرداء : " لقد أعطانا الله أذنان ولسانا واحداً لنسمع أكثر مما تتكلم " .

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * * * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
اللهم جنبنا الزلل في القول والعمل .
 من أي نوع نفسك؟ تعال نتعرّف إلى النفوس الثلاث، لتتعرّف إلى نفسك في إحداها.
1- النفس الأولى: الأمّارة بالسوء، لها ثلاث صفات أساسية: لو غلبت عليك واحدة منها فهي نفسك:
- لو غلبت شهوتك على عقلك.
- لو غلب سوء خُلقك مع الناس على حُسن خلقك، أي لو غلب شرّك على خيرك.
- لو غلبت معاني الحقد والغلّ والكراهية في قلبك على الطِّيبة والتسامح.
- لو أن واحدة من الثلاث صفات لديك، فإنّ نفسك تكون أمّارة بالسوء، لذلك، النّبي يُعلِّمك في بداية خطبه، الحاجة إلى الدعاء بالنجاة من هذه النفس: "إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا".
2- النَّفس الثانية: اللَّوامة.. مُتردِّدة، كثيرة التقلُّب، وتعصي ثم تندم فتتألّم، فتنصلح، ثم تعصي ثم تندم ثم تتوب، ثم تعصي.. لكنها مازالت مستيقظة، وإلا لمَا كانت لوّامَة. أقسم بها ربّنا لأنّ محاولتها دليل على أنّ بذرة الإيمان حيّة فيها. حَلَّها أن تُفكِّر كثيراً في يوم القيامة لتستيقظ. لذلك ذُكرت في سورة القيامة: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/ 1-2).
3- النفس الثالثة هي أملنا اليوم، النفس المطمئنة، كلها نُور، مطمئنة لأنها ترى في ظَلْمَة الحياة الصحّ والخير والحق. كلها ثَبَات، مطمئنة لأنه ترى وليست مُتردِّدة ولا خائفة، كلّها سَكينة. ولأنها مطمئنة فإنها مستقرَّة، على الرغم من الأمراض والموت والخسائر. وقد سُمِّيت مطمئنة لأنَّ كل الناس حيَارَى في رسم طريقهم إلاَّ هذه النفس، رسمَت خطّها مع الله إلى الجنَّة.
لذلك، اسمَع الآيات: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).
ليس معنى ذلك أنَّها نفسٌ لا تخطئ. طبعاً هي تخطئ، لكنها رسَمَت خطّ حياتها إلى الله إلى الجنَّة. الخطأ وارد، لكنه عارض، والخط مرسوم إلى الله.
فأي نفس هي نفسك؟ أمَّارة أم لوّامة أم مطمئنة؟ هل مازلت لا تعرف؟ سأُساعدك أكثر..
هناك أُناس يَثبتون على نفس واحدة من الثلاث طوال عمرهم، وهناك أناس تتغيّر نفوسها بين هذه النفوس الثلاث خلال العمر، بل أحياناً خلال اليوم الواحد.
خلال العمر راجع نفسك: هل كنت نفسك مطمئنة قديماً ثمّ غيَّرتك الأيام؟
خلال اليوم الواحد، تصبح نفسك لوّامة، وتُمسي أمّارة، وفي رمضان مطمئنة.
هناك أُناس كُثْر يقولون الآن: نفسي لوّامة. لكن كثرة اللوم ينتج عنها واحة من اثنتين: إما أن تصبح النفس مطمئنة أو تَتعَب من كثرة اللوم فتصبح أمّارة بالسوء.
عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: "خطَ لنا رسول الله (ص)، خطاً، ثمّ قال: "هذا سبيل الله". ثمّ خطَ خطوطاً عن يمينه وشماله، ثمّ قال: "هذه سُبل متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثمّ قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ...) (الأنعام/ 153).
تخيّل.. وسط الجبال والوديان، من بعيد شخصاً تائهاً يجري في كل إتِّجاه، بينما شخص آخر يمشي بإطمئنان وإستقرار في إتِّجاه واحد، لأنّه يعرف طريقه.
أيُّ نفس نفسك؟ إذا أردت أن تكون نفسك مطمئنة، فرمضان فرصتك. جرِّب السّعي إلى النّفس المطمئنة وستنجح.
ولأنّ النفس هكذا يمكن أن تتقلّب كثيراً بين الثلاث، فكيف تعرف إلى أين تتجه نفسك الآن؟
اجلس مع نفسك جلسة هادئة، وتأمّل وفكِّر.. اجلس معها وأعطِها الوقت الكافي، وراجع شريط الشهر الذي مضى، وستعرف أي نفس هي نفسك.
تستحق نفسك أن تعطيها من وقتك ربع ساعة يومياً، أو ساعة أسبوعياً.
إيّاك أن تقول: لا وقت لديَّ. اجلس معها.. لا تكن مثل شخص مسافر بين مدينتين في السيارة، وقالوا له: املأ خزّانك بالوقود، فأجاب: أنا مستعجل.. لا وقت لديَّ.
كيف تصل إلى النفس المطمئنة؟
وكيف تنتقل من الأولى والثانية وتَرتَقي إلى المطمئنة؟
وكيف تَثبت عليها في رمضان وبعد رمضان؟
أمامك أربع طُرق.
1- الطريقة الأولى هي أن تُكثر من ذكر الله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
2- الطريقة الثانية لتصل إلى النفس المطمئنة، أن تُجاهد نفسك، كما في حديث النبي لربيعة: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود". جاهد نفسك في أشياء صعبة عليك لتصل إلى النفس المطمئنة. اصحَ فجراً.. توقّف عن التدخين، ابتعد عن "الشيشة"، لا تقرب المال الحرام، تحجّبي أيتها الفتاة... إلخ. ثمّ تخيل حلاوة إنتصارك على نفسك وطموح إنتقالك من النفس الأمّارة إلى المطمئنة. هذه سعادة لوحدها.. "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود".
3- الطريقة الثالثة لتصل إلى النفس المطمئنة، دوام التوبة وعمل حسنات كثيرة تردّك بسرعة إلى النفس المطمئنة. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود/ 114).
سأل عبدالله بن رواحة النبي (ص)، فقال: أوْصني يا رسول الله، فقال له: "با عبدالله لا تيأس، وإنْ أسأت تسعاً أن تُحسن واحدة، فالحسنة بعشر أمثالها، فيقبَلك الله عزّ وجلّ".
الطريقة الرابعة أن تُكثر من السجود: أعنِّي على نفسك بكثرة السجود". سجدة صلاة طويلة، سجدة شُكر بعد كل صلاة. قالت لي إمرأة: لم تطمئن نفسي حتى جرّبت أمر النّبي لربيعة، فصرت أسجد شُكر بعد كل صلاة.
هذه أربع وصفات، أو أنوار من النبي، بأحاديث للوصول إلى النفس المطمئنة. إنّ حُب الرسول ليس في الكلام فقط، بل في إتِّباع نوره. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد/ 28).
لو عرفت نفسك وجعلتها نفساً مطمئنة، ستتذوّق سعادة لم تعرفها من قبل.
هيَّا قم بقوّة وهمَّة، وستنجح في حياتك لو أنّ نفسك مطمئنة، وستعيش سعيداً مع الإيمان والنفس المطمئنة إذا وصلت إليها.. (... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 123-124).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم/ 96).
(إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الإنفطار/ 13-14).
وهو ليس نعيم وجحيم الآخرة فقط، بل وفي الدنيا أيضاً
.

متى تبكي على نفسك

ابك على نفسك

عندما تجدها ضعيفة أمام الشهوات ،
عظيمة أمام المعاصي

ابك على نفسك
عندما ترى المنكر ولا تنكره ...
وعندما ترى الخير فتحتقره

ابك على نفسك
عندما تدمع عينك لمشهد مؤثر في فيلم ..
بينما لا تتأثر
عند سماع القرآن الكريم

ابك على نفسك
عندما تبدأ بالركض خلف دنيا زائلة ..
بينما لم تنافس
أحدا على طاعة الله

ابك على نفسك
عندما تتحول صلاتك من عبادة إلى عادة ..
ومن ساعة راحة
إلى شقاء

ابك على نفسك
عندما يتحول حجابك إلى شكل اجتماعي ..
وتستركِ إلى
أمر تجبرين عليه

ابك على نفسك
إن رأيت في نفسك قبول للذنوب ...
وحب لمبارزة علام الغيوب

ابك على نفسك
عندما لا تجد لذة العبادة .. ولا متعة الطاعة


ابك على نفسك
عندما تمتلئ بالهموم وتغرقها الأحزان ..
وأنت تملك الثلث الأخير من الليل


ابك على نفسك
عندما تهدر وقتك فيما لا ينفع ..
وأنت تعلم أنك محاسب فتغفل

ابك على نفسك
عندما تدرك أنك أخطأت الطريق ..
وقد مضى الكثير من العمر

ابك على نفسك
بكاء المشفق .. التائب.. العائد ..
الراجي رحمة مولاه..
وأنت تعلم أن باب التوبة مفتوح
ما لم تصل الروح إلى الحلقوم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم




0 التعليقات:

إرسال تعليق